M. Jalal Hashim

Friday, August 28, 2020

شلّة المزرعة، ما لها وما عليها؟

 

شلّة المزرعة، ما لها وما عليها؟

محمّد جلال أحمد هاشم

الخرطوم ــــ 28 أغسطس 2020م

"شلّة المزرعة": التّعريف بالمصطلح والمهام

"شلّة االمزرعة" مصطلح يقصد به مجموعة من الأشخاص يُزعم بالتقائهم بطريقة دوريّة، وربّما يوميّة أو أسبوعيّة، في مزرعة معلومٍ صاحبُها، ذلك لمناقشة أوضاع البلاد، تقديماً للمشورة لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك، أو اتّخاذاً للقرارات بالنّيابة عنه وبرضاه. وهم، بهذه الصّفة الاستشاريّة، ليسوا بالضّرورة كلّهم ضمن طاقم مكتب حمدوك؛ ففيهم من هو جزء من الشّلّة، يخوض فيها مع الخائضين، بالرّغم من أنّه ليست لديه أيّ صفة رسمية. والصّفة الغالبة لكبار أعضاء شلّة المزرعة هي أنّهم كان زملاء دراسة بالجامعة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك.

كثيراً ما توجّه أصابع الاتّهام لهذه الشّلّة بصورة عامّة، أو لأحد أعضائها بصورة خاصّة، بزعم التّدخّل في شئون الحكم بصورة سافرة، يعلمها الجميع، ولو كانت من وراء حجاب لا يحجب شيئاً في بلدٍ لا تعرف الأسرار. وعلى هذا، فإنّ جميع استشارات وقرارات شلّة المزرعة، مجتمعين أو منفردين، تظهر للعلن في شكل مؤامرات تُحاك من وراء ستائر الدّولة. ولكن هذه الصّورة فيها ظلم كبير لشلّة المزرعة. فبحكم التصاق عضويّة شلّة المزرعة برئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، ثمّ بحكم ضعف شخصيّة رئيس الوزراء وتحاشيه تحمّل المسئوليّة، هذا بجانب انبهام الرّؤية، فإنّ أيّ شخص يجد نفسه في حضرة رئيس الوزراء بطريقة مستمرّة، من قبيل المستشارين، سوف يجد نفسَه متورّطاً لا محالة في اقتراح الحلول للمشاكل الطّاغية التي تعمُر بها البلاد، ويقف حيالها رئيس الوزراء وهو مندهش، تلُفُّه الحيرة. أكثر من ذلك، فإنّ رئيس الوزراء، في سعيه الدّائم لتحاشي تحمّل مسئوليّته كرئيس للوزراء وللحكومة الانتقاليّة، يدفع مستشاريه دفعاً، من باب الحرص عليه وإظهاره بمظهر رجل الدّولة الحقيقي، إلى ملء الفراغات التي يخلقها هو جرّاء ضعف شخصيته وتهرّبه المستمرّ من تحمّل مسئولية إدارة البلاد. وبما أنّ هؤلاء المستشارين الذين يملأون مكتبه لا يملكون غير تقديم المشورة، دون اتّخاذ القرارات، فإنّ أيّ قرار يتّخذونه، أو يعملون عبر صلاحيات رئيس الوزراء لإنفاذه، يظهر للنّاس والشّعب في صورة مؤامرة، ذلك بحكم أنّ هؤلاء المسشارين لا يملكون صلاحيّة تسيير دفّة البلاد. ولهذا، ليس هذا ما يهمّنا، بل ما يتّخذونه من قرارات وتبعاتها.

 

"شلّة المزرعة": الخلفيّة الفكريّة

ممّا يُعرف عن شلّة المزرعة بالضّرورة أنّهم جميعاً كانوا أعضاء في الحزب الشّيوعي، ثمّ غادروه طوعاً أو مُكرهين. وعلى هذا يمكن النّظر إليهم على أنّهم، بصورة أساسيّة، "مرافيد" الحزب الشّيوعي، بالرّغم من أنّ فيهم من كانت علاقتُه بالحزب مجرّد الصّداقة عبر ما يعرف بالجبهة الدّيموقراطيّة إبّان الدّراسة الجامعيّة. هذا مع أنّ هناك معلومات تفيد بوجود أعضاء لم يكونوا يوما ينتمون لقبيلة الشّيوعيّين والجبهجيّة الدّيموقراطيّين. وهذه معلومة هامّة للغاية في تحليلنا للطّبيعة الأيديولوجيّة لشلّة المزرعة (وبالطّبع لعبدالله حمدوك بالضّرورة). هنا لا يهمُّنا من فارق خطّ الماركسيّة عن تحرّر فكري.

أدناه سوف نناقش الخلفيّة الفكريّة لشلّة المزرعة لنتعرّف على أثر العامل الذي جمعهم، ألا وهو الحزب الشّيوعي، وكيف ولماذا غادروا صفوفه، ثمّ كيف يؤثّر هذا في مجمل تفكيرهم وأدائهم. وتكمن أهمّيّة هذا من حقيقة أنّ هذه "الشّلّة" أصبحت الآن، عبر تمكين حمدوك لها، تتحكّم في جانب هام وخطير من المرحلة الانتقاليّة التي بدورها تعتبر أخطر مرحلة يمرّ بها السّودان منذ الاستقلال وإلى الآن. أدناه سوف نبدأ بتحليل عامل هام داخل بنية الحزب الشّيوعي، فكراً وتنظيماً، لعبت دورها، وبطريقة استمرّت لحوالي نصف قرن على أقلّ تقدير، في تنفير أجيالبعد أجيال من عضويّة الحزب الشّيوعي المخلصة وتحويلها، أوّلاً، إلى "المبتعدين" (وهو المصطلح الذي تعامل به معهم المؤتمر الخامس للحزب الشّيوعي السّودان في سابقة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ هذا الحزب)، ثمّ لاحقاً المستقيلين و/أو المفصولين. وجميعهم نتعامل معهم مجازيّاً بتعبير "مرافيد" الحزب الشّيوعي، أي الذين استقالوا من الحزب أو قام الحزب بفصلهم، ذلك طالما حدث لهم ذلك دون أن يتحرّروا فكريّاً من الماركسيّة.

 

الحزب الشّيوعي: ما بين المشكلة الفكريّة وأزمة الأبراتشيك apparatchik

المشكلة الفكريّة التي نتحدّث عنها هنا لخّصها القيادي البارز وعضو اللجنة المركزيّة السّابق، الأستاذ سليمان حامد بقوله في مقابلة صحفيّة: «الحديث عن الاشتراكيّة الآن وهم، ناهيك عن الشّيوعيّة» (جريدة الصّحافة 4/6/2008م). فإذا كان هذا كهذا، علينا أن نتساءل عن الأهداف ذات الأساس الفكري التي يعمل الحزب على بلوغها. فهل يا تُرى هذا يعني أنّ الحزب قد استهلك طاقته الفكريّة، بينما لا يزال يحتفظ بطاقته التّنظيميّة بدرجة أو بأخرى؟ إذا كان الامر كهذا، فإنّها مسألة وقت حتّى يموت هذا الحزب سريريّاً. ولكنّا، في الجانب الآخر، لا نستبعد أن يقوم الحزب بتجديد نفسه فكريّاً، كأن يتبنّى فكراً جديداً غير منبتّ الأصول عن منابع ماركسيّته الأولى بالضّبط كما فعل قرامشي وكما حاولت مدرسة فرانكفورت من قبل. لكن المعضلة dilemma التي يواجهها الاحتمال الثّاني هو أنّ الواقع يشير بوضوح إلى أن مسألة ابتناء فكر جديد سوف تقع بالضّرورة على عاتق قيادة الحزب، أو على مباركتها له بالضّرورة. في هذه الحالة تبرز حقيقة أخرى ليست أقلّ خطراً من حقيقة استهلاك التّنظيم لطاقته الفكريّة، ألا وهي أنّ العضويّة القديمة التي لا تزال تنتمي إلى الفكر الشّيوعي في صيغته التي وصفها سليمان حامد بأنّها قد أصبحت وهماً (كيفما كانت حالة هذا الوهم) يكون مطلوباً منها التّسليم بفكر ربّما لم يدر في خلدها في أيّ يومٍ من الأيّام. هذه هي المعضلة dilemma التي يواجهها الاحتمال الثّاني.

كما أشرنا من قبل في مقالٍ لنا مبذول في الأسافير عن الحزب الشّيوعي السّوداني (الحزب الشّيوعي السّوداني: الله لا جاب يوم شكرك! https://www.blogger.com/blog/post/edit/25108190/8972072709695938144)، في مثل هذه الأزمة يمرّ والحزب بإحدى حالتين خطيرتين: الأولى هي نزول قيادة الحزب، عبر الأعضاء الأذكياء، على قلّتهم عادةً،، ذوي الشّكيمة الفكريّة الذين تُزعجهم الأسئلة الفكريّة فلا ينالون قسطاً من الرّاحة إلاّ ليلجوا في مشكلة أخرى، إلى القواعد وترفيع وعيهم بهذه المشكلة، ذلك حتّى يبرز التّجديد الفكري وكأنّه قد انبثق من داخل قواعد الحزب. والأصل في هذه العمليّة أنّ الفكر لا يموت، كونه غير قابل للنّفاد؛ فالذي يموت هو قدرة الأشخاص على الابتداع. فمن يعتقد أنّ الفكر الذي كان يؤمن به قد مات، فليعلم أنّه هو الذي مات، وليس فكره.

الاحتمال الثّاني هو أن تتصلّب القيادة السّياسيّة للحزب وتقف ضدّ أيّ محاولات تجديديّة. في هذه الحالة الأخيرة قد ينحو هؤلاء الأعضاء ذوو الطّبيعة الفكرانيّة of intellectual nature إلى أحد احتمالين؛ الأوّل هو الابتعاد عن التّنظيم، فلا هم يواظبون على حضور اجتماعاته ولا هم يقومون بدفع اشتراكاتهم ... إلخ الواجبات التّنظيميّة. وكما أشرنا أعلاه، شهد الحزب الشّيوعي حالة طاغية من هؤلاء إلى درجة تسميتهم بالمبتعدين، أي دون تطبيق اللائحة عليهم. هذه الحالة عادةً ما تنتهي إمّا بالاستقالة أو بالطّرد من الحزب. الاحتمال الثّاني هو انزواء هذه العناصر داخل أروقة الحزب والعمل في صمت لتدوير الفكر الماركسي الثّر، غير النّافد، بغية ترفيع الوعي القاعدي بالمشكلة الفكريّة التي يمرّ بها الحزب، في نفس الوقت الذي يُديرون فيها ربّما واحدة من أضخم المعارك الفكريّة الدّاخليّة في تاريخ أحزابنا السّودانيّة المعاصر. وهم إذ يفعلون هذا، لا يعرفون الاستسلام لليأس من نجاعة الفكر الماركسي، في نفس الوقت الذي لا يعرفون في الملل، بجانب تنقيتهم لأنفسهم الأمّارة بالسّوء من أيّ نزعات انقساميّة. وعلى هذا فهم يوالون قيادة الحزب المتصلّبة بالمودّة والاحترام والتّقدير، ذلك احتراماً لصادق حرصها على الحزب.

إلاّ أنّ أكبر خطر يواجه التّيّارات التّجديديّة الفكريّة الماركسيّة هو صعود الأبّراتشيك apparatchik لملء الفراغ الفكري الذي من المؤكّد سوف تخلقه المشكلة الفكريّة. هؤلاء شغّيلة خليّة النّحل داخل أجهزة الحزب حيث يتّصفون بوفائهم المطلق والأعمى للحزب، وهؤلاء هم الغالبية التي تمثّل عمدة الأجهزة الحزبيّة العاملةapparat . هؤلاء قد جرت تسميتُهم في أدبيّات الحزب الشّيوعي السّوفيتي بالأبَراتشيك apparatchik، حيث يُعرف عنهم عدم انشغالهم بالفكر، إذ لا تشغلهم مزعجاتُه وعادةً ما يكتفون بالخطوط العامّة منه. إلاّ أنّ هذه المجموعة تتمتّع بشأن خطير في الحزب كونها تقوم بحراسته تنظيميّاً ومنشطيّاً، بينما تقوم المجموعة الفكرانيّة بحمايته فكريّاً وسياسيّاً. على هذا تُعرف عن مجموعة الأبَراتشيك بالنّفوذ والهيمنة على المفاصل الأساسيّة داخل بنية التّنظيم. فهي ربّما لا يلحظها أحد من خارج التّنظيم كونها لا تحبّ الأضواء؛ فلا هي متحدّثة لبقة، ولا هي قادرة على تقديم نفسها وفكرها بطريقة جذّابة، فضلاً عن فقدان أغلب هذه الكوادر للجاذبيّة القياديّة. وقد تطرّق الخاتم عدلان لصعود نجم هذه المجموعة في كتابه (آن أوان التّغيير، 2012)، ذلك دون أن يتستخدم مصطلح الأبَراتشيك في تسميته لهم.

نخلص من هذا إلى الصّورة التّالية التي تتكوّن من ثلاثة واجهات. أوّلاً، في الواجهة الأولى، لدينا "المرافيد" الذين غادروا صفوف الحزب وهم يتلمّظون شفاههم إحساساً منهم بالمرارة والإحساس العميق بالغبن تجاه الحزب (أو تحديداً تجاه قيادته)، بجانب مفارقتهم للخطّ الفكري في صميم حياتهم، ولو كانت بهم بقيّة ذُبالة عاطفيّة لا تزال تشُدُّهم إلى ماضيهم عندما كانوا أعضاء في الحزب الشّيوعي. ثمّ، في الواجهة الثّانية، لدينا الفكرانيّون intellectuals الذين لم يغادروا صفوف الحزب انطلاقاً من أنّ الإنسان هو صانع فكره بمثلما هو صانع وجوده. وبالتّالي، لا مجال للزّعم بنضب معين الفكر الماركسي، ذلك بحكم أنّ كلّ ما سيتطوّر منه سيكون ماركسيّاً بالضّرورة، مهما اختلفت طبعة ماركس نفسه عن ماركسيّته في مقابل طبعتهم الماركسيّة الحاليّة. وعلى هذا لا زالوا باقين داخل صفوف الحزب الشّيوعي من منطلق الالتزام التّنظيمي، ثمّ من منطلق الإيمان بقدراتهم الفكريّة الماركسيّة التّجديديّة في تصحيح الوضع داخل الحزب نفسه، ثمّ من بعد ذلك الانطلاق في المدى الوطني والإنساني الكبير، دفعاً لعمليّة الحرّيّة والعدل والسّلام، إذ لا سلام بلا عدالة، كما لا عدالة بلا سلام. أخيراً لدينا، في الواجهة الثّالثة، الأبَراتشيك apparatchik الذين آخر ما يستحقّونه هو أن يُلعنوا أو يدانوا. فهم حُرّاسُ المعبد، وهم خليّةُ النّحل، ولا يوجد تنظيم سياسي، اجتماعي، عبر التّاريخ، خلا منهم. هذا بالرّغم من أنّ سيطرتهم على الحزب قد تفضي بالحزب إلى موارد الهلاك.

 

"شلّة المزرعة": الوضعيّة الأيديولوجيّة

تعاملنا مع هذه المجموعات الثّلاث بوصفها "واجهات"، ذلك لاشتباكها مع بعضها البعض. ولا توجد مقولة عكست هذا الاشتباك Interlacing (وليست الارتباط Engagement بالضّرورة) مثل مقولة "لا يوجد أسوأ من الشّيوعي إلاّ الشّيوعي السّابق". فهنا يبدو أنّ تخلّي الشّيوعي عن شيوعيّته ليس كافياً لتحريره من الشّيوعيّة كونه سوف يصبح مجرّد شيوعي سابق. إلاّ أنّ هذا الاشتباك Interlacing بين "مرافيد" الحزب الشّيوعي وبين الحزب ليست له أيّ صفة جدليّة، كونه عبارة عن علاقة هدّامة، تتّجه بوصلة الهدم فيها من "المرافيد" باتّجاه الحزب. فالجدليّةُ عندنا هي القانون الذي يحكم الصّراع البنّاء، وليس الصّراع الهدّام. لهذا لا ينبغي أن يدفعنا هذا الاشتباك إلى أن نخلط بين "مرافيد" الحزب في علاقتهم مع الحزب وبين الأعضاء الفكرانيّين intellectuals الحقيقيّين في علاقتهم مع الحزب. فهؤلاء الأخيرون يمكن وصف علاقتهم مع الحزب بأنّها علاقة جدليّة، ذلك بحكم انعقاد الأمل على مساعيهم في تطوير الحزب وتفعيله فكريّاً وتنظيميّاً وسياسيّاً.

وعلى هذا، لا بدّ من التّفريق بين موقع أقدام "المرافيد" الأيديولوجيّة، وبين موقع أقدام الفكرانيّين الثّقافيّة ــــ هذا باعتبار أنّ الأيديولوجيا ليست سوى تزييف للواقع وللوعي، نسبةً لانغلاقها، بما يفضي إلى حالة الغباء الأيديولوجي، بعكس الثّقافة التي التي تخلق الوعي، نسبةً لانفتاحها، بما يفضي إلى إنتاج الذّكاء الثّقافي الضّروري للوجود. ويعني قولُنا هذا أنّ "المرافيد" هم مجرّد إيديولوجيّين ideologues، وما مفارقتُهم للحزب إلاّ من باب اكتشاف انتمائهم الأيديولوجي الحقيقي الذي يتعارض تماماً والنّهايات المنطقيّة التي يمكن أن يقود إليها الفكر الماركسي ــــ أيّ فكر ماركسي أصيل. هذا في مقابل الشّيوتعيّين الفكرانيّين الذي هم ثقافيّون في المقام الأوّل، ذلك بحكم أنّهم يؤمنون بقدراتهم في تطوير فكرهم الماركسي بما يساهم في تحقيق قيم الحرّيّة والعدل والسلام بحيث يتساوى الجميع وينقلنا من استقطابات الأيديولوجيا بانغلاقها وطبيعتها الخطّيّة Linear السّاكنة Static إلى رحابة الثّقافة بانفتاحها openness وطبيعتها المتفاعلة الدّيناميكيّة.

 

شلّة المزرعة و"مرافيد" الحزب الشّيوعي إسلاموعروبيّون بجدارة

بهذا نخلص إلى أنّ هؤلاء "المرافيد" ليسوا سوى كوادر إسلاموعروبيّة كانت تعمل بوصفها خلايا نائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، ذلك لدفع الحزب إلى الانحراف في اللحظة الحاسمة. والملاحظ أنّ هؤلاء "المرافيد" هم دعاةُ تغيير اسم الحزب بغرض قطع أيّ وشيجة مع الماركسيّة. ثمّ هم نفسهم المتصالحون مع الطّائفيّة ومع الإسلاميّين، ثمّ العروبيّين؛ ثمّ مع العسكر والأجهزة الأمنية، بل والمليشيات، بما فيها تلك ذات الأساس الإثني. فالحقيقة هي أنّ هؤلاء "المرافيد" ليست لديهم "قشّة مُرّة" مع كلّ قطاعات السّودان القديم، بينما في نفس الوقت يتحامون قوى السّودان الجديد وفكر السّودان الجديد، بحجّة أنّه قد أثبت فشله بموجب انفصال جنوب السّودان إلخ هذه الآراء الفطيرة التي تكشف حقيقة مواقع أقدامهم الأيديولوجية.

الحقيقة هي أنّ مفارقتهم للحزب الشّيوعي (بصرف النّظر أنجمت عن الاستقالة أو الطّرد، فكلاهما سِيّان عندنا) قد أوجبتها عدم قدرتهم للمُضِيِّ أكثر من ذلك ضدّ ما تهواه أنفسُهم وتسعى إليه في باطنها، سعياً حثيثاً يخلص في نهاياته المنطقيّة إلى توطيد الهيمنة الأيديولوجيّة الإسلاموعروبيّة التي تتخفّى زوراً وبهتاناً خلف الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة السّمحتين. بالعودة إلى "شلّة المزرعة"، فقد حاولنا بأن نضعهم في علبهم الأيديولوجيّة الإسلاموعروبيّة الحقيقيّة. ونأمل من فعلنا هذا أن يقف كإجابة لتساؤلات الكثيرين من المراقبين الذين فاجأتهم مواقف هذه الشّلّة المناهضة لروح الثّورة وخط الثّورة والمهادنة للطّائفيّة وفلول نظام الإنقاذ، فضلاً عن ظظاهر محاباتهم للعسكريّين من لفيف اللجنة الأمنيّة بجانب المليشيات الإثنيّة. فقد وافق شنٌّ طبقة!

MJH

الخرطوم ــــ 28 أغسطس 2020م

 

 

Saturday, January 18, 2020

ليس دفاعاً عن وجدي ميرغني؛ لكن لا خير فينا إن لم نقلها!


ليس دفاعاً عن وجدي ميرغني؛
لكن لا خير فينا إن لم نقلها!
محمد جلال هاشم
الخرطوم ـــ 17 يناير 2020م
MJH
أخيراً حصحص الحقُّ وانجابت سحبُ الاتهامات عن سماءٍ صافية! فقد خضع أخونا وصديقنا، رجل الأعمال المعروف، وجدي ميرغني محجوب للتحقيق بخصوص علاقات أعماله التجارية والزراعية والصناعية ببعض جماعات النظام البائد. ولسنا هنا للتعرض إلى تلك التحقيقات التي انتهت إلى إبراء ذمته، بمثلما أمسكنا من قبل أقلامنا خشية التأثير في مجراها بأي حال من الأحوال. ولم يكن موقفنا هذا أو ذاك فقط من باب إيماننا العميق بنصاعة صفحة أخينا وجدي، بل أيضاً إيماناً منا بحقّانية أخينا وصديقنا مولانا تاج السر الحبر (النائب العام) الذي كم صال وجال في ردهات المحاماة والقضاء إبان النظام المباد وهو يعمل ليل نهار لرفع الظلم عن ضحايا ذلك النظام الذي ما أجاد شيئاً كما أجاد ارتكاب المظالم والتسبب فيها لمختلف الأشخاص والمجموعات من الشعب السوداني بطريقة يصعب تصورها، كما لو كان له حساب قديم مع الشعب، تشحنه الرغبة في الانتقام والتشفي.
ما نريد توضحيه هنا، بجانب إبداء إيماننا مسبقاً ببراءته، فضلاً عن التضامن مع الأخ الصديق وجدي ميرغني، ذكر حقائق تتعلق بتاريخ هذه الأسرة الرائدة في المجالات الزراعية والصناعية، بحيث توفّر لها أن تلعب دوراً كبيراً في باب تطوير الزراعة الآلية كصناعة وطنية بدأت من الصفر. وفي هذا نريد أن نؤكد حقيقة ربما لا يعرفها الكثيرون، ألا وهي أن الرأسمال الوطني الذي توفّر لهذه الأسرة الكريمة الرائدة سابق لزمن الإنقاذ بما يقرب من العشرين عاماً. وليس أدلّ على ذلك من أن الشركة الزراعية الأفريقية African Plantation Company قد احتفلت أخريات العام الماضي بالعيد الذهبي لها، أي بمرور 50 عاماً منذ تأسيسها (1969م ـــ 2019م). كما نسعى من وراء هذا إظهار حقيقة أخرى، ألا وهي أن أسرةً بماضٍ مشرق ورائد كهذا تكون كأغنى ما يمكن أن تكون عن اتباع منهج "الجوكية" في تنمية رأسمالها. وليس أدلّ على ذلك من أن المنهج الذي تتبعه هو منهج إنمائي يقوم على بناء البنيات التحتية لمشاريعها من رصف للطرق ومدرجات المطارات إلى بناء المجمعات السكنية  Residential Compounds لموظفيها وعمالها بمواقع الإنتاج. ليس هذا فحسب، بل تلعب دوراً أساسياً في رفع مستوى الخدمات العامة من صحة وبيئة ومساعدات زراعية للمجتمعات المحلية التي تُدير فيها مشاريعها. وهي إذ تفعل هذا، تتبع أحدث التقانات المعمول بها في مجالها على مستوى العالم. وبالطبع يصبح من نافلة القول الإشارة إلى أن هذا المنهج يتناقض تماماً مع المنهج الإنقاذي الذي يقوم على استحلاب أي مشروع صناعي أو زراعي دون إيلاء أدنى درجات العناية اللازمة التي تحقق استمرارية المشروع. ولهذا تدمرت جميع مشاريع الإنتاج في زمن الإنقاذ الواحدة تلو الأخرى، هذا بينما ظلت مشاريع الأسرة تشهد تطوراً مستمراً من قبل زمن الإنقاذ مروراً بزمن الإنقاذ وإلى اليوم في فترة ما بعد الإنقاذ.
تعود أعمال "محجوب إخوان" إلى رجال الزراعة الآلية الرائد المرحوم ميرغني محجوب (1925م ــــ 1987م). فقد شهد الرجل بداية تدشين الحكم الاستعماري البريطاني لمشاريع الزراعة الآلية وذلك في بدايات أربعينات القرن العشرين. وما دفعهم للتفكير في التوسع الآلي في الزراعة المطرية هو الحاجة الماسة إلى تشوين جيش الحلفاء بالجبهة الشرقية الذي كان يعد العدة لمواجهة الاحتلال الإيطالي لأريتريا وتهديد إثيوبيا. ثم استمر ميرغني محجوب في مرحلة ما بعد الحرب يعمل تحت مفتش الزراعة في مجال الزراعة المطرية الآلية. وفي عام 1954م دخل السودان مرحلة سودنة الوظائف تمهيداً للاستقلال ومغادرة البريطانيين للبلاد. هنا كان ميرغني محجوب هو من سودن وظيفة مفتش الزراعة في وحدة ود الحوري بالقرب من القضارف. وهناك حكى لي الأهالي أن مسقط رأس وجدي ميرغني كان بمركز ود الحوري وهو ما ظللت أظنه إلى أن قام هو بتصحيح هذه المعلومة حيث قال بأن والدته الفضلى حملته إلى ود الحوري بعد الأربعين مباشرةً. وبالفعل استمر ميرغني محجوب في وظيفته الرائدة تلك حيث ترك بصمات لا تزال واضحة في صناعة الزراعة الآلية المطرية. وبقدر ما عُرف عنه الحزم والصرامة في العمل، بقدر ما عُرف بطيبة القلب وسعة الصدر بجانب سعة الأفق وحرصه الوطني الكبير لتطوير هذا القطاع الحيوي، بجانب تمكين الأهالي من الاستفادة القصوى من المشاريع الزراعية التي بدأت تتسع مساحاتُها في مناطقهم. وبعد ثورة أكتوبر في عام 1964م، استقال ميرغني محجوب من وظيفته طوعاً واختياراً، ثم خاض الانتخابات النيابية في عام 1966م ليدخل البرلمان (1966م ـــ 1967م). وما إن خرج من قبة البرلمان حتى اتجه إلى ما كان يعرفه ويتقنه تمام الإتقان، ألا وهو الزراعة الآلية المطرية. وبالفعل خاض هذا المجال، لا كمزارع فحسب، بل كمطوِّر لهذه الصناعة التي كانت لا تزال في بداياتها. ثم في عام 1969م قام بتأسيس الشركة الزراعية الأفريقية. ومنها انطلقت وتطورت وتناسلت مجموعة شركات محجوب أخوان، وعلى رأسها الشركة الزراعية الأفريقية، رائدة تطوير الزراعة الآلية المطرية في السودان. في عام 1987م لبى ميرغني محجوب نداء ربه وعمره قد ناهز الثانية والستين فقط؛ وفي مثل هذا يقول الناس "اتخطف"! إلا أنه رغم ذلك لم تنتكس رايات العمل التجاري والصناعي التي قام ميرغني محجوب بتدشينها. فقد كان هناك إخوانه وأبناء إخوانه، وفوق كل هذا كان هناك أبناؤه حيث يقف على رأسهم ابنه البكر وجدي ميرغني محجوب، جميعهم كالحلقة المفرغة، امتيازاً واحتذاقاً، لا تعرف بمن تبدأ وبمن تنتهي، حفظهم الله جميعاً. إلا أن موقع وجدي منهم كان ولا يزال كموقع التاج في رأس الملوك، فأنعم وبارك!
منذ تأسيسها، أثبتت الشركة الزراعية الأفريقية أنها تقف كمدرسةٍ لوحدها في مجال التقانات الزراعية وصناعاتها. فهي أول من اعتمد نظام الحيازات الضخمة Big Scale من حيث الإنتاج، متبعةً في ذلك منهجية علمية رائة وغير مسبوقة. كما تعتبر الشركة الرائدة في مجال تدشين المحاصيل النقدية Cash Crops من حيث الإنتاج والتصدير، أكان ذلك في مجال الحبوب أو الحبوب الزيتية وخلافها، ثم أخيراً مجال القطن. في كل هذا، اتبعت الشركة منهج الرعاية الاجتماعية للمجتمعات المحلية التي تمارس بينها نشاطها. فقد قامت بتوفير العديد من الخدمات في مناطق إنتاجها، بدءاً من الطواحين، والخدمات الصحية انتهاءً بإتاحة خدمات ورش الصيانة الخاصة بآلياتها للمجتمعات المحلية. واليوم توسعت هذه الخدمات لتشمل الخدمات التعليمية، بجانب رفع قدرات الأهالي بمناطق إنتاجها. ولكن أهم ما قامت به الشركة (بجانب مجموعة شركات محجوب إخوان) هو توفير الغذاء للأهالي بمناطق الإنتاج وذلك برعاية الزراعات الصغيرة من حيث تمويلها بتوفير الأرض ثم التقاوي والإشراف الكامل على الحراثة والأسمدة والمبيدات، دون أن يدفع الأهالي شيئاً، مقابل خصم التكلفة من عائد الإنتاج. وقد خصصت لهذا الغرض موسم الزراعة الشتوية (زراعة "الميعات") التي لا يمكن استزراعها في الموسم المطري الصيفي، خاصةً زراعة بطيخ التسالي بجانب الخضروات. كل هذا لتقوية المجتمعات المحلية، جماعاتٍ وأفرادا.
إلا أن أضخم تطوير قامت به الشركة الزراعية الأفريقية هو، أولاً، اتباعها لمنهج البحوث العلمية الصارمة بغية تطوير أدائها. فهناك قسم كامل للبحوث يجعل هذه الشركة الرائدة تبرز بوصفها مركزاً بحثياً وطنياً متاحاً للبلاد. وثانياً هو الاهتمام بالبنيات التحتية؛ فالطرق المرصوفة والمطارات والمجمعات السكنية الراقية، بجانب توفير خدمات الكهرباء والإنترنت، وكذلك الورش والآليات المتطورة والمتقدمة، تجعل من مشاريع هذه الشركة ليس فقط واحات في هجير تلك السهول الممتدة بامتداد البصر، بل تجعلها تقف كصرح حضاري يشهد بأن السودان فيه تجربة لا تقل في كفاءتها عن أي تجربة زراعية في أستراليا أو سهول أمريكا أو أوروبا أو الصين وآسيا. ثالثاً، وذلك جرّاء اتباع المناهج العلمية، تدشين الشركة للمنهج الذي يعرف باسم "الزراعة الصفرية" Zero Cultivation Method الذي لا يستلزم حراثة الأرض المراد زراعتُها. فهذا المنهج يوفر الكثير من الوقت والتكاليف، كونه يعتمد على الزّرّاعة Planter، هذا مع الاعتماد على المبيدات والأسمدة بطريقة علمية يشرف عليها خبراء بعضهم يحملون شهادت الماجستير والدكتوراة. رابعاً، المكننة الكاملة للعملية الزراعية. فمثلاً، زراعة القطن في مناطق الزراعة المطرية الآلية تجعل لقيط القطن باليد عملية غير مجدية بالمرة. هنا تقوم باللقيط آليات تعمل بالكمبيوتر بصورة شبه كاملة حيث تلتقط لوزات القطن وتقوم بحلجها أوليّاً، انتهاءً بتحوليها إلى "بالة" ملفوفة بالبلاستيك أو القماش وجاهزة للتصدير أو معالجتها محلياً في المحالج ومصانع النسيج ما كان هذا متاحاً.
في مواجهة متطلبات الحياة تحت المحاربة المستمرة لشخصي الضعيف من قبل جلاوزة النظام المباد، اتجهت قبل حوالي ثلاث سنوات للزراعة في مناطق سنار والنيل الأزرق والقلابات. اتجهت مع بعض الأصدقاء وبميزانية أقل ما يمكن أن توصف به أنها كانت شبه معدومة، حيث كان كل العشم منصباً على تمويلات البنوك بكل ما يكتنف ذلك من صعوبات. وبالفعل، لم تواجهنا الصعاب فحسب، بل ظل شبح السجن مخيماً علينا في كل خطوة خطوناها. تُرى كم هي المساحة التي كنا ننوي زراعتها؟ ألف فدّان؟ لا وأيم الله! كلها 100 فدان، حبوباً زيتية كانت أو فتريتة إلخ. كل هذا والأهل والأقارب في مناطق الإنتاج يستغربون عدم لجوئي لوجدي ميرغني محجوب وهو الصديق والقريب. وعندما نما إلى علمه ذلك وبّخني قائلاً: "كيف تدخل هذا المجال من وراء ظهري وأنا موجود"؟ وبالفعل، وجهني لموظفيه الحاذقين والرسميين لدى التعامل، باشين مبتسمين، لكن بلا مجاملات على حساب العمل. لقد عاملوني كما يعاملون الأهالي بالمنطقة، على قدم المساواة وأدرجوني ضمن زراعة "الميعات" في الموسم الشتوي. وهكذا إنتميت لقبيلة صغار مزارعي بطيخ التسالي. ولكم دهشتُ من هول ما رأيت في مجمعاتهم السكنية من حيث توفّر كل سبل الراحة. عندها زاد طمعي في جمائل صديقي وجدي، وأنا أحمل فوق ظهري (تحديداً داخل كمبيوتري) أكثر من 10 كتب تكاد تكون في مراحلها الأخيرة وأنا أعاني بمثلما يعاني من بنى بيتاً وتبقت "التشطيبات". فالكتب كالمنازل بالضبط! "التشطيب" يأخذ منك من الوقت والمال ربما بأكثر مما أخذ البيت كله. عندها طلبت منه أن يستضيفوني في مجمعاتهم السكنية حيث الكهرباء لا تقطع وخدمات الإنترنت أفضل مما هي عليه بالمدينة، وحيث الغرف لا تقل عن غرف الفنادق 5 نجوم. وبالطبع لم يسمح لي بذلك فحسب، بل شجعني. وكيف لا وهو قد ظل ولا يزال (مع ثلاثي أبناء داؤود عبد اللطيف الغُرّ الميامين حفظهم الله جميعاً) يقوم بتغطية تكلفة أسفاري للمشاركة في المؤتمرات الأكاديمية الدولية، من التذكرة إلى الفندق إلى مصاريف الجيب! يفعلون هذا عندما تم فصلنا من الجامعة مع منعنا من شغل أي وظيفة بأي جامعة بطريقة دائمة، حتى لو كانت كلية جامعية ناشئة.
إنني ـــ أكرر ـــ لا أكتب دفاعاً عن الأخ الصديق وجدي ميرغني محجوب! فهو أقدر مني على الدفاع عن نفسه، وها هو قد برَّأ ساحته. وقد كنت على يقين لا يتزعزع من أن الحقُّ سوف يحصحص وتنبلج شمسه عما قريب بإذن الله، وهو ما حدث اليوم. لكني من نفرٍ مضغوا الظلمَ لسنوات طوالٍ بطول العمر كحنظلٍ مرٍّ حتى تشظى منا اللسان واصطكّت الأسنان. فإذا كنا سنقبل الظلمَ في غيرنا، فلا خير فينا. لهذا رأينا أن نصدع بشهادةٍ هي بكل المعايير شهادةٌ مجروحة، لكن علم الله أنها نابعة من القلب والعقل والضمير، ولا خير فينا إن لم نقلها!
                                                                   MJH

الالتفاف حول مطلب العلمانية برفض مطلب تقرير المصير


الالتفاف حول مطلب العلمانية برفض مطلب تقرير المصير
محمد جلال هاشم
MJH
الخرطوم 13 يناير 2020م
هذه الايام، وبالطبع فيما سيلي من ايام، بدأت تطالعنا العديد من الاصوات التي تأتي من الاتجاهات الأربعة، وبعضها تلقاء الجبال والنيل الأزرق، لتعبر عن رفضها لمطلب تقرير المصير. ترى إلى أي مدى تنطوي هذه الآراء على تناغم او تناقض، وانعدام للمنطق أو توفر له؟ دعونا نتأمل فيها انطلاقا من الحقائق على الواقع!
الحقائق الآن، وبموجب المفاوضات الجارية في جوبا، فإن مطلب تقرير المصير بالنسبة للحركة الشعبية قد أصبح موقفا تفاوضيا مقابل العلمانية كمطلب مبدئي. وعليه، هذا يقتضي أن يتم التعامل أولا مع المطلب المبدئي؛ فإذا كانت طبيعة هذا التعامل هو الرفض و/أو الاعتراض على هذا المطلب المبدئي، فعندها يجوز منطقيا الانتقال إلى التعامل مع الموقف التفاوضي تجاه تقرير المصير، إما بقبوله أو رفضه. والنقطة التي نريد تسليط الضوء تكمن في السؤال التالي: ما الذي يجعل أي شخص يتوجه بالحديث عن المطلب التفاوضي، قافزا فوق المطلب المبدئي؟ تخيلوا معي أن تذهب إلى صاحب البقالة وتطلب منه أن يعطيك زجاجة ببسي حمية diet وفي حال العدم يعطيك زجاجة ببسي عادية؛ فإذا بصاحب البقالة يرد عليك قائلا: إنه لن يعطيك زجاجة الببسي العادية لأنها مليئة بالسكر وهو لا ينفع معك! فهذا يعني بالضرورة أن زجاجة الببسي حمية غير متوفرة، بالإضافة إلي موقفه الرافض لإعطائك خيارك الثاني.
ولهذا فإن تصاعد هذه الأصوات التي بدأت تهب علينا من كل الاتجاهات، وكذلك من تلقاء الجبال والنيل الأزرق، لتقفز فوق مطلب العلمانية وتعلن رفضها لتقرير المصير، تعني فيما تعني، ترجيحا، انها تستبطن رفض العلمانية اولا ومن ثَمَّ تتوقَّى بإردافه برفضها لمطلب تقرير المصير الذي يترتب منطقيا على رفض مطلب علمانية الدولة.
على هؤلاء أن يكونوا شجعانا وأمينين مع أنفسهم ومع شعب المنطقتين، ثم مع الشعب السوداني كله. لقد عانى شعب المنطقتين على يد الدولة الدينية للنظام البائد من التقتيل والقصف الجوي تحت حجج الجهاد وذلك لعقود طوال. هذا مع أنه يقع ضمن دافعي الضرائب لهذه الدولة. أي أنه ظل يقتَّل ويقصف بما يدفعه من مال. في الدولة الوطنية التي تستمد قوتها المالية في الأساس مما يدفعه الشعب من ضرائب، ما من شعب شرعت دولته بتقتيله بشكل جماعي إلا واستحق خيار أن يقرر إذا ما كان يريد أن يستمر كجزء من هذه الدولة الظالمة.
الوطنية في الدولة الوطنية ليست قيمة سرمدية، بل هي قيمة قابلة للنفاد it has an expiry date!. ويبدأ تاريخ نفادها من اللحظة التي تشرع فيه الدولة الوطنية بفقدان طبيعتها الوطنية نفسها وذلك بتخليها عن أهم شرط للدولة الوطنية، ألا وهو علمانيتها البنيوية. فالدولة الوطنية هي بنيوياً علمانية كونها تستمد سلطاتها من الأرض (الشعب) وليس من السماء (ادعاء التفويض الالهي). وبهذا لا تصبح العلمانية مذهبا فكريا قد يتفق معه الناس أو يرفضونه؛ العَلمانية شرط لازم للدولة الوطنية ولهذا تقوم على المواطنة بصرف النظر عن الدين أو الضمير أو اللون أو السلالة إلخ. فبما انك تدفع الضرائب وتلتزم بالقانون، عندها تتساوى حقوقك مع أي مواطن آخر بصرف النظر عن معتقدك أو لونك أو عرقك أو الجهة التي قدمت منها. في هذا تقف الدولة موقفا إيجابيا متساويا من الجميع، بمختلف معتقداتهم أو خلفياتهم الدلالية والعرقية والجهوية إلخ. فالدولة الوطنية العَلمانية لا تعادي أي دين بمثلما هي لا تنحاز إلى أي دين؛ لكنها في المقابل توفر الجو الصحي والآمن لكل ذي دين في يمارس شعائر دينه دون خوف من أحد ودون أن يتعدى حدوده ليتغول على حدود الآخرين المخالفين له في المعتقد. ولهذا، ما إن تفقد الدولة الوطنية عَلمانيتها وتتبني لها موقفا دينيا، ثم تشرع في التمييز بين مواطنيها على أساس الدين لدرجة إعلان الجهاد ضد بعض مواطنيها، عندها تكون قد توقفت عن أن تصبح دولةً وطنيةً بحق وحقيق. وعندها تبدأ روح الوطنية في النفاد.
دعونا نتأمل في كيف ولماذا انفصل جنوب السودان وأصبح دولةً مستقلة وها هو الآن يستضيف محادثات السلام لمعالجة نفس المشكلة التي جعلته ينفصل؟ إن منطق الأحداث هذا يشير وبكل وضوح إلى أنه من المنطقي والمتوقع أن تظهر للوجود دولة أخرى تنفصل عن السودان ويكون اسمها هو "جمهورية السودان الجديد" وعاصمتها كادوقلي. ولن يكون مستبعدا أن تستضيف كادوقلي بعد عشر سنوات محادثات سلام بين حكومة السودان القديم وحركات مسلحة متمردة في سبيل إحلال السلام والحيلولة دون تقسيم ما تبقى من السودان القديم. عندها صدقوني سوف يكون المحك هو عَلمانية الدولة من عدمها. والسؤال هو: من المسئول عن تفتيت وبلقنة السودان؟ الذين ظلت الدولة غير العلمانية التي يدفعون لها الضرائب تقتلهم وتقصفهم وتعلن الجهاد ضدهم حتى وصلوا درجة الاكتفاء enough is enough، أم الذين يديرون أمر هذه الدولة الظلوم ويصرون على الاالرابع منذ لحظة تدشينهت تستعيد علمانيتها البنيوية حتى تصبح مرة أخرى دولة وطنية حقيقية تقوم على المواطنة دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الوضع الاجتماعي الاقتصادي إلخ؟
لهذا نطالب من جميع الذين يعلنون عن رفضهم لتقرير المصير وهم يتباكون بدموع التماسيح على الوطنية ووحدة البلاد أن يعلنوا أولا موقفهم من العَلمانية. فإذا كانوا ضدها، فليوفروا علينا نواحهم وعويلهم على الوطنية ووحدة البلاد وليعلموا أنهم هم الذين يفرطون فيها. لقد تم تدشين الدولة الوطنية في عام 1648م بموجب اتفاقية ويستفاليا عندما ثبت أن الدولة الدينية التي كانت تحكم وقتها بادعاء التفويض الإلهي وبالتالي لم تكن دولة وطنية، بل كانت تفرق ولا تجمع لاعتمادها نظام السادة النبلاء مقابل العبيد والأقنان. والآن تكاد تكمل الدولة الوطنية العلمانية قرنها الرابع، وبالتالي تكون قد أصبحت جزءا من بديهيات العصر وشروطه اللازمة المفروغ منها. هذا بينما لا يزال بيننا أناس هم في أفضل حالاتهم متخلفون عن ركب الحضارة بأربعة قرون، كونهم لم يتمكنوا بعد من إدراك واحدة من ارسخ بديهيات الدولة منذ أربعة قرون. هؤلاء هم أعداء السودان الفعليون، وأكثر من ذلك هم أعداء أنفسهم، فالجاهل هو عدو نفسه! هؤلاء هم الذين يقسمون السودان!


Thursday, November 14, 2019

النيوليبرالية والتأرجح ما بين وزير المالية وحمدوك! الحكومة ممثلةً في هذين الشخصين فاشلة يا قوى الثورة، فماذا أنتم فاعلون؟



النيوليبرالية والتأرجح ما بين وزير المالية وحمدوك
الحكومة ممثلةً في هذين الشخصين فاشلة يا قوى الثورة، فماذا أنتم فاعلون؟
محمد جلال هاشم
الخرطوم 15 نوفمبر 2019م
كون وزير المالية ينتمي للمدرسة النيوليبرالية فهو أمر معروف للجميع ولو أنكر إبراهيم البدوي ذلك ولجّ في النكران كما ظل يفعل. وكون حمدوك ينتمي لمدرسة الأمم المتحدة التي تؤمن بدولة الرعاية، فهو أيضا أمر معروف للجميع دون أن يكون لذلك أي علاقة بالشيوعية أو الماركسية التي تركها وراء ظهره منذ اللحظة التي التحق فيها بمنظمة الأمم المتحدة ـــ هذا مهما حاول أن يصوّر نفسه في صورة الشيوعي الماركسي الثوري وكلاهما بريئان منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فما لا يعلمه الكثيرون هو أن حمدوك أبدى للقوى الغربية الإمبريالية التي رشحته وضمنت له منصب رئيس الوزراء التزامه بالنيوليبرالية كسياسة لحكومته الانتقالية وذلك قبل أكثر من ثلاثة شهور من تقلده للمنصب. وبهذا تخلى حمدوك عما كان يعتقده الكثيرون أنه موقف فكري (دولة الرعاية)، بينما لم يكن ذلك في الحقيقة سوى موقف مهني بحت بحكم عمله في اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة. وقد أصبح الرجل في حل من ذلك بمجرد نزوله للمعاش حيث وجه أنظاره لدولة الإنقاذ (1) بقيادة البشير مطالبا برد جمائله الاستشارية التي قدمها لها. فما كان من دولة الإنقاذ إلا أن رشحته لمنصب رئيس الكوميسا الذي خسره لتكتل باقي الدول الأعضاء وترشيحهم لشخص آخر. عندها أبدى نظام الإنقاذ (1) التزامه برد جمائل حمدوك الاستشارية، فرشحوه لمنصب وزير المالية الذي وافق عليه ثم تراجع بعد أن تلقى النصيحة من بعض السفراء الغربيين بالاعتذار عن هذا المنصب. وقد جاء اعتذاره يحمل في طيّاته موافقته، حيث برر اعتذاره بأن رجلاً واحداً لن يكون في مقدوره تصحيح أخطاء عشرات السنوات .. إلخ. وبالمناسبة، كانت تلك هي نفس الدوائر الإمبريالية التي أعدّته لمنصب رئيس وزراء الفترة الانتقالية. وقد أوفوا بوعدهم وبقي عليه أن يفي بوعوده لهم، وهو ما يفعله الآن بطريق أو بآخر، كما سنرى.
إذن فالشيء المعروف عن حمدوك ووزير ماليته تعويلهما بصورة أساسية على روشتات صندوق النقد الدولي وتمويل البنك الدولي، هذا برغم إنكارهما لهذا الاتجاه، قبل تقلدهما لمنصبيهما وبعد تقلدهما. والأمر كهذا، كان الجميع يتوقع أن يُبدي الرجلان تفهما للإجراءات التي بموجبها يمكنهما أن يحصلا على مرادهما النيوليبرالي. ولكن بكل أسف أثبت الرجلان أنهما لا يعرفان ما تنبغي معرفته بالضرورة عن هذه الإجراءات؟ فقد أثبتا أنهما لا يعرفان أنه وفي ظل تمديد حالة الطوارئ الأمريكية الخاصة بالسودان وما نجم عن ذلك من إدراج اسم السودان في قائمة الدولة الراعية للإرهاب وما نجم عنه بالتالي من عقوبات ــــ في ظل هذا الوضع يكون قد تم تلقائيا تفعيل المواد القانونية الصادرة من الكونقرس الأمريكي التي تلزم أي ممثل لأمريكا في صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو أي مؤسسة على وجه الأرض بعدم التصويت إيجاباً لأي مشروع يمكن أن يستفيد منه السودان (باستثناء بعض النواحي الإنسانية). وبما أن صدور أي قرار من الصندوق أو البنك الدولي يقتضي حصوله على نسبة بعينها على أقل تقدير بدونها لا يجوز إصدار أي قرار، وبما أن الولايات المتحدة قد ظلت تحرص على الحصول على قوة تصويتية في كلا المؤسستين بحيث يمكنها الاعتراض ميكانيكياً على أي قرار لا يتوافق ومصالحها، وهي القوة الناجمة عن مساهمتها مالياً في المنظمتين، عندها يصبح في حكم المستحيل أن يستفيد السودان بأي طريقة من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. فلماذا وبأي مبرر ذهب الرجلان إلى هاتين المؤسستين يطالبان بالمال ويعدان بالالتزام بروشتة صندوق النقد الدولي؟
لقد ظن حمدوك أن الخطابة الطنّانة، الرنّانة هي الأسلوب المفضي إلى إسقاط اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. فقد أعلنها داوية أن الشعب السوداني ليس إرهابياً، كما لو كان هناك اتهام للشعب السوداني من هذا القبيل. وكذلك فعل وزير ماليته الذي احتقب أوراقه واستعداده الشخصي والمؤسسي ومن ثم توجه للمنظمتين طالبا العون وذلك في أول سفرية له. وقد حدث هذا بعد أن أغلظ في الأيمان من قبل مؤكداً أنه لا ينتمي للمدرسة النيوليبرالية. فبماذا عادا؟ ليس فقط بخفّي حُنين، بل عادا وقد جددت أمريكا وضعية السودان في قائمتها البيضاء (وليس السوداء!) المتعلقة بالإرهاب وما يتبع من عقوبات. فلماذا تُتعب أمريكا نفسها إذا كانت هناك دولة مستعدة للرضوخ لجميع مطالبها مجانا وبلا أي ثمن؟ هذا ما كان من أمر نظام الإنقاذ (1) بقيادة البشير، وهو ما كان أيضا من أمر الإنقاذ (2) بقيادة عبد الفتاح برهان لو امتدت أيامها، وهذا هو أمر الإنقاذ (3) بقيادة عبد الفتاح برهان ورئيس حكومته المدنية الصورية عبدالله حمدوك. فكأننا يا بدرُ لا رحنا ولا جينا! لقد أكدت تصريحات وزيارات حمدوك ووزير ماليته النيوليبرالي للعالم أنهما لا يعرفان شيئاً من إجراءات منظمات يدعيان أنهما عملا بهما وبالتالي هما خبيران بدروبهما.
الجميع يعلم أن رفع العقوبات الأمريكية يبدأ في الخرطوم وليس في واشنطون. فأمريكا لم تدرج السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب من فراغ. اليوم هناك شركات باسم الجيش والأمن والبوليس والدعم السريع (وجميعها قوات نظامية بموجب الوثيقة الدستورية)، فضلاً عن شبكة من الشركات الأخطبوطية غير المعروف عددها ويملكها منسوبو الإنقاذ وتمارس عملها في السوق، تبيع وتشتري، حتى دون أن يكون بعضها مسجلاً لدى المسجل التجاري. وتقارب ميزانيات هذه الشركات، الحقيقية والوهمية، المدنية والعسكرية، فيما يعتقده الكثير من المراقبين، نصف الدخل القومي على أقل تقدير دون أن يكون لحكومة حمدوك أو زوير المالية أي ولاية عليها. وبمجرد سقوط الإنقاذ (2) برئاسة عبد الفتاح برهان ومجيء الإنقاذ (3)، برئاسة برهان فعلياً وحمدوك اسمياً، قامت هذه الشركات بإنزال لافتاتها ومن ثم تحويل ملكية أوراقها إلى أشخاص وهي لا تزال تعمل بنشاط في السوق. بموجب أحد تعريفات الإرهاب، هذه هي الأموال التي تمول الإرهاب كونها أموالاً ليست عليها أي ولاية من أي جهة حكومية، وبالتالي لا يمكن التكهن بمشارع صرفها. فإذا أراد حمدوك ووزير ماليته أن تقوم أمريكا برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، عليهما، أولاً وقبل كلّ شيء، أن يُدخلا هذه الأموال ضمن ولاية وزارة المالية. هذه واحدة من الإجراءات العديدة التي يتوجب على حكومة حمدوك أن تبدأ بها، هذا لو كانت حكومته تملك سلطةً حقيقية. ولكن كيف نتوقع هذا من حمدوك ووزير ماليته وهما أعجز من أن يصدرا قراراً بوقف واردات الفواكه المسرطنة، غير العضوية بالمرة، ثم التمور، التي تكلف خزينة الدولة ملايين الدولارات وتقف خلفها نفس الشركات التي تملكها هذه الجهات، مدنيّها وعسكريّها؟ هذه الواردات التي تضرب المنتوج الوطني من الفواكه في مقتل.
هناك قوى محلية وقوى دولية تقف وراء تشكيل حكومة حمدوك. القوى المحلية تتمثل في الطائفية بصورة أساسية ثم الكومبرادور الإمبريالي المتغلغل داخل تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير. وما يجمعها كلها أنها تخضع أو تتبنى الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، أكانت طائفية مثل حزب الأمة، أو فصائل اتحادية، أو مؤتمر سوداني، أو فصائل قومية عربية، أو مرافيد الحزب الشيوعي (تمشياً مع مقولة "لا يوجد أسوأ من الشيوعي إلا الشيوعي السابق"). هذه القوى يقف الشقّ الطائفي داخل حزب الأمة على قيادتها متناسياً خلافاته مع بعضها إلى حين. وتكمن خطة هذا الشق الطائفي في حزب الأمة في خلق تحالف مع بقايا الإسلاميين (بعد تجريدهم من قياداتهم باعتقالها بحجة محاكمة الانقلابيين والفاسدين)، ثم إشراك الاتحاديين بقيادة الشق الطائفي داخل الفصائل الاتحادية، ثم بعد ذلك التحالف مع المجموعات العربية الوافدة من دول الجوار الغربي، وبالطبع يعني هذا التحالف مع مليشيات الجنجويد المسماة بالدعم السريع بوصفها قوة حماية ضاربة لهذا التحالف، بجانب العسكريين الذين على استعداد لتفكيك الجيش وتتبيعه للدعم السريع. بمجرد انعقاد لواء هذا التحالف، سوف تجد القوى الإسلاموعروبية الأخرى التي ليس لها أساس ديني واضح وتتظاهر بأنها علمانية دون أن تقرّ بذلك لجبنها وتخفيها خلف كلمة "الدولة المدنية" (البعثيون والناصريون والمؤتمر السوداني ومرافيد الحزب الشيوعي، دون الانتهازيين، المدنيين العباسيين، منهم الذين يلبسون لكل حالٍ لبوسها) ـــ ستجد نفسها قد حصدت الهواء، هذا ما لم تنخرط في بيت الطاعة الطائفي. وقد تمثل سنام خطة هذه القوى الإسلاموعروبية الطائفية في تشكيل حكومة فاشلة تبرر إسقاطها قبل انتهاء فترة رئاسة العسكريين للمجلس السيادي، هذا بزعم فشل الفترة الانتقالية كلها. هذه هي الخلفية المحلية التي وقفت وراء تشكيل حكومة حمدوك الفاشلة. لا غرو أنهم انتقوا شخصاً يعرفون عنه تماماً ضعف الشخصية وانعدام الرؤية، كونه مجرد أفندي لا يهمه غير إرضاء رؤسائه والترقي إلى أعلى ولو كان هذا على رؤوس الجماجم. ثم دعموه بوزير مالية طائفي حتى النخاع، ثم هو قبل كل هذا وبعده نيوليبرالي المذهب. ولا أعرف غيره رجلاً جمع هاتين الموبقتين معاً ثم مشى بين الناس متباهياً.
ثم هناك قوى دولية وقفت وراء تشكيل حكومة حمدوك الفاشلة، يمكن تلخيصها في المعسكر الإمبريالي الغربي وتقف الولايات المتحدة وبريطانيا على رأسها. وقد لعبت بريطانيا دور رأس الرمح في تهيئة حمدوك لهذا الدور حيث نصحوه بالعدول عن قبول منصب وزير مالية نظام الإنقاذ (1) برئاسة المخلوع عمر البشير، ثم اتصلوا به منذ شهر يناير 2019م لتحضيره لمنصب رئيس الوزراء حيث تمكنوا من الاتفاق تماماً معه بحلول شهر مارس 2019م. كل هذا دون أن يكلف الرجل نفسه في تحضير سياسة بعينها يمكنه أن يدير الدولة بموجبها. ولماذا يفعل هذا؟ فمن أتوا به عليهم أن يقوموا برسم هذه السياسات وهو سينفذها كأي أفندي. ولكن ليس من بينها قوى الحرية والتغيير التي صرح حمدوك في أكثر من موقع أنه لن يلتزم بما تقوله، ذلك توهماً منه بأن القوى الغربية هي التي تقف وراءه، دون أن يدري بأن أمّ عامرٍ (الضبع) لا تؤتمن بالمرة إلا من الجهلة الأغرار. فحمدوك هو أول من انتهك الوثيقة الدستورية التي قررت بوضوح أنه يتوجب عليه أن يختار وزراءه من الترشيحات التي ستقدمها له قوى الحرية والتغيير، فكان أن صرّح على رؤوس الأشهاد أنه لن يلتزم بذلك، فكان أتى بوزراء لا يعرف الشعب حتى الآن الجهات التي رشحتها له. ثم انقلب الرجل على أهله أسيفاً باكياً ليعلنها "بدون خجلة" أنه لا يملك أي رؤية لإدارة الدولة وأنه يتوجب على قوى الحرية والتغيير أن تمده بهذه الرؤية [كذا]! فما لا يعلمه حمدوك هو أن القوى الإمبريالية التي وقفت خلف الإتيان به كانت لا تزال تعوّل عليه بصورة نهائية في إنفاذ برامجها بالسودان عبر خطتيها، أي الخطة ألف (Plan A) الإصلاحية التي تتلخص في أن ينجح السودان في التخلص من البنية الإرهابية المغروزة عميقاً في الدولة الإنقاذية وبذلك ينضمّ السودان إلى قائمة الدولة الخاضعة لخطّها، وبالتالي تُرفع عنه العقوبات. ولكن في حال تأزم الوضع في السودان بوصفه دولة غير متحكَّم فيها ungovernable state، فعندها سوف يكون حمدوك نفسه مفيداً لها حيث سيتم استخدام فشله الذريع لتحقيق الأهداف الإمبريالية الأخرى، أي تنفيذ الخطة باء، (Plan B)، ألا وهي تفكيك دولة السودان الكبير إلى دويلات صغيرة على غرار نموذج الدولة المشيخية بالخليج حيث يمكن أن تكون واحدة منها فاحشة الثراء لكنها غير قادرة على حماية نفسها. فإذا سار حمدوك في نفس مجرى دولة الإنقاذ (1) ثم قصيرة العمر الإنقاذ (2)، وأثبت أن فترته هي مرحلة الإنقاذ (3)، كما أثبت واقع الحال هذا ولا زال يثبته كل يوم، فعندها سوف تتعامل معهم قوى الإمبريالية، وعلى رأسها أمريكا، بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع الإنقاذ (1) برئاسة المخلوع عمر البشير. وعلى هذا لا يبقى لوزير المالية، وكذلك لحمدوك، غير المزيد من الانبراش المجاني للمؤسستين (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) اللتين تعتبران بمثابة رأس الرمح للإمبريالية العالمية. هذا دون أن تخفف أمريكا الحصار عن السودان ودون أن ترفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بالضبط كما ظلت تفعل مع الإنقاذ (1)؛ يعني ذلة وخراب ديار، بالضبط كما كان عليه الحال في زمن الإنقاذ، ولهذا قلنا كأننا يا بدرُ لا رحنا ولا جينا. ولكن وزير مالية حمدوك كان على استعداد غير مسبوق للانبراش، ليس للقوى العظمى، بل وكلائها في المنطقة حيث صرّح "بدون خجلة برضو" أن ميزانية 2010م سوف يقوم الأصدقاء (العرب طبعاً) بتمويلها (أي كما كانوا يفعلون مع حكومة المخلوع عمر البشير). ولا ينبغي أن نلومه في هذا، فقد صرّح بذلك حمدوك نفسه عندما أعرب عن تعويله على هؤلاء الأعراب الذي داوموا على تمويل المخلوع البشير، لكن عبر إجراءات مهينة ومذلة. وفي الحقيقة كانت وزيرة خارجية حمدوك غير الحصيفة، التي لا ندري من أين أتى بها، ومن رشحها له، قد سبقتهما من قبل بتمييزها ما بين الأفارقة الجيران والإخوة العرب [كذا]!
إذن فجميع القوى المحلية والدولية تعوّل على فشل حكومة حمدوك، وأخطر هذه القوى هي المحلية الإسلاموعروبية المتشكلة من تحالف الطائفية والمستعربين الوافدين من دول الجوار الغربي بمليشياتهم الإثنية، ثم العسكريين الذين سيعملون على تفكيك الجيش السوداني. هذه القوى أعلنت وعلى رؤوس الأشهاد عن نيتها خرق الوثيقة الدستورية عبر حل حكومة حمدوك بوصفها فاشلة، وهو الفشل الذي عملت بكل ما تملك لتحقيقه عبر اختيار العناصر الفاشلة بما في ذلك حمدوك نفسه ووزير ماليته وآخرون. وبالطبع، تجايرها وتسايرها في هذا باقي القوى الإسلاموعروبية غير الطائفية التي سيتم بدورها التخلي عنها في اللحظة المناسبة، ما لم تدخل بيت الطاعة الطائفي. فماذا أنتم فاعلون يا قوى الثورة المجيدة؟
ينبغي أولاً أن نواجه الحقيقة الماثلة للعيان، وهي ذات شقين: الأول هو الفشل الأدائي الماحق والشخصي لكلا حمدوك ووزير ماليته، والثاني هو الفشل البنيوي الراكز في صلب هذه الحكومة. بخصوص الأول، علينا المطالبة الآن وليس غداً بإقالة حمدوك ووزير ماليته فورا ودون تأخير. أما بخصوص الثاني، فعلينا أن نتوقف عن تسمية هذه الحكومة بالانتقالية، إذ علينا أن نسميها باسمها الذي حُرمت منه، ألا وهو "الحكومة الثورية"، وليس الحكومة الانتقالية؛ فالتسمية الأولى تعني أنه لا مجال لغير الثوار في أن يشغلوا مقاعد هذه الحكومة على ألا تزيد أعمارهم عن 55 عاماً، بينما يمكن للخبرات التي تزيد أعمارُها عن هذا أن تخدم في المجالس الاستشارية لكل وزير. ويعني هذا تجاوز الحفرة التي قُصد منها أن تُقبر الثورةُ في مهدها عبر تنصيب من يسمّون بالتكنوقراط. فهؤلاء ليسوا بثوريين، بل هم أفندية، وما الأفندي إلا قوة رجعية غير ثورية لا يعنيه شيء إلا طاعة رؤسائه والاستفادة الشخصية من هذه الخدمات. ويقف حمدوك ووزير ماليته كنماذج حيّة لشخصية الأفندي الفاشلة؛ فغدا سوف يبحثون لهم عن وظائف، مستفيدين من فترة خدمتهم هنا كسيرة ذاتية مفيدة ليس إلا. عليه، لا ينبغي أن نُجمل الحكم بالفشل على الحكومة كلّها، بل على هذين الشخصين الفاشلين. وبمجرد تعيين رئيس وزراء ثوري بديل ووزير مالية ثوري بديل، يتم إعفاء جميع الوزراء الذين اختارهم حمدوك، الذين لم تقم بترشيحهم الجهات المختصة في تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير. متزامناً مع هذا، تقوم قوى الحرية والتغيير بتشكيل المجلس التشريعي الثوري من القوى الثورية الميدانية ومن الشباب من الجنسين بصورة خاصة، بما يعني تمثيل جميع ألوان الطيف التي لعبت دورها الكبير في الثورة الشعبية المجيدة غير المسبوقة، وبالأخص التمثيل الإيجابي للكنداكات الشابات.
ولا يظنّن أحد أننا بقولنا هذا نعني بأن الأمور سوف تستقيم ضربة لازمٍ بمجرد اتخاذ هذه الإجراءات! إذ ستكون هناك مواجهة بين القوى الثورية القاعدية والقيادية التي قادت هذه الثورة على الأرض وعلى مستوى الحكومة من جانب وبين القوى الإسلاموعروبية المتمثلة في الهبوط الناعم بشقيها الطائفي وغير الطائفي. كما ستكون هناك مواجهات بين هذه القوى الثورية الحقة من جانب وبين المليشيات الإثنية وقوى الثورة المضادة من العسكريين. ونعني بقولنا هذا إن الثورة مستمرة وينبغي أن تستمر إلى أن تقتلع جميع جذور الإنقاذ (1) ثم الإنقاذ (2) وأخيراً الإنقاذ (3) التي نعيش أيامها الآن بفشلها وعقمها. فالمجد المتمثل في تحقيق قيم الحرية والعدل والسلام ليس بتمرٍ مبذولٍ في الطرقات لنأكله، إذ لن نبلغ المجدَ حتى نلعقِ الصّبرَ!

Thursday, August 08, 2019


الثورة لا تساوم! وإذا ساومت، فذلك يفتح الباب للثورة المضادة!

محمد جلال أحمد هاشم

إن موافقة تجمع المهنيين للاجتماع مع المجلس العسكري ينطوي في حد ذاته على اعتراف ضمني بالمجلس. وهذا أول الوهن! على تجمع المهنيين أن يصطف مع المعتصمين، واضعا شروطه المعلنة للقوات المسلحة المتمثلة في الآتي:
أولا الموافقة على تسليم السلطة لمجلس قيادي مدني يقوم تجمع المهنيين والقوى المتحالفة معه بتشكيله من القوى المشاركة في هذه الثورة المجيدة، مع عزل تام لكل القوى والشخصيات التي تحالفت مع نظام الإنقاذ; ولتلاحظوا هنا اننا لم نذكر حزب المؤتمر الوطني لأن حله وحظره من مزاولة نشاطه رسميا وإحالة قياداته للحجز في انتظار التحقيق معهم هو من باب الضرورة بحيث لا يحتاج إلى ذكر.
ثانيا على المجلس العسكري أن يقوم باعتقال القيادات العليا لجهاز الأمن والتحفظ عليهم تهيئةً للتحقيق معهم فيما ارتكبوه من جرائم (ويعني هذا بالضرورة اعتقال الفريق عمر زين العابدين الذي كان مديرا لمكتب نافع على نافع عندما كان الأخير مديرا لجهاز الأمن ويعتبر من صقور كوادر جهاز الأمن؛ ولكن كيف يمكنه أن يفعل ذلك وهما أولاد دفعة!).
ثالثا على المجلس العسكري أن يقوم باعتقال جميع الإعلاميين الذين ظلوا يحرقون البخور لنظام الإنقاذ ويكيلون الشتائم للثورة والثوار، ولا يزالون يفعلون. وهذا يشمل الصحف الخاصة (ظاهريا)، والقنوات التلفزيونية والاذاعات الحكومية والخاصة (ما يجدر ذكره أن جميع التلفزيونات السودانية، الحكومية وغير الحكومية، حتى الآن لم يورد ولو منظر واحد لميدان الاعتصام كما لا تزال تستخف بالثورة. كما لم يذيعوا حتى الآن ولو نشيدا وطنيا واحدا لوردي أو محمد الأمين).
رابعا على المجلس العسكري ان يقوم بحل المليشيات العسكرية الجنجويدية ذات الخلفية الإثنية وعلى رأسها ما يعرف باسم "قوات الدعم السريع" التي تديرها أسرة معروفة، ثم التحفظ على جميع قياداتها الإثنية والعسكرية بغية التحقيق معهم في مجمل الجرائم التي ارتكبوها في دارفور ولا يزالون يرتكبوها حتى هذه اللحظة، هذا بجانب التحقيق مع قادة هذه المليشيا الإثنية فيما يتعلق بقضايا الفساد الاقتصادي والمالي وتخريب الاقتصاد الوطني، بجانب التحقيق حول عدم سودانية أغلب منسوبيها.
خامسا على المجلس العسكري أن يسحب كل القوات السودانية من حرب اليمن التي تاجر فيها نظام الإنقاذ (1) بشرياً بالجندي السوداني بجانب مقاتلي المليشيات الإثنية مثل المليشيا الجنجويدية المسماة بقوات الدعم السريع.
سادسا على المجلس العسكري أن يقوم باعتقال جميع الشخصيات الضالعة في الفساد المنظم عبر مؤسسات الدولة وتنظيم المؤتمر الوطني المحظور، بجانب المفسدين الآخرين وعلى رأسهم أشقاء الرئيس المخلوع عمر البشير.
سابعا على المجلس العسكري أن يقوم بإلغاء جميع القوانين والمواد القانونية التي تقيد الحريات بما في ذلك القوانين ذات الأساس الديني وخاصةً قانون النظام العام وقانون العقوبات وغيرها. عليه أن يتخذ هذه القرارات حتى يثبت لجماهير الشعب أهليته وثوريته وأنه ليس امتدادا للإنقاذ (1).
تاسعا على المجلس العسكري أن يرد الاعتبار، مشفوعة باعتذار رسمي، لمن لا يقل عددهم عن أربعة إلى خمسة ملايين سوداني تعود أصولهم الإثنية لدولة جنوب السودان، قامت دولة الإنقاذ (1) بإسقاط جنسياتهم في مخالفة صريحة لقانون الجنسية والدستور. فهؤلاء لم يشاركوا في اتفاقية نيفادا، كما لم يقوموا بتسجيل أسمائهم في سجل الاستفتاء وبالتالي لم يصوتوا لانفصال الجنوب، مقدرين أن يكونوا سودانيين بموجب ما سمح به لهم القانون. ولكن دولة الإنقاذ (1) العنصرية قررت معاقبة هؤلاء لفعلٍ قام به غيرهم. وعليه، فإن الثورة التي لا تعيد الحقوق الأساسية (حقوق المواطنة) لملايين البشر ليست بثورة شعبية. وهذا يعتبر بمثابة محك لاختبار وطنية هذا المجلس وإذا ما كان قد انحاز لبرنامج الثورة، ام يريد أن يمتطي ظهرها تدليسا منه وتمترسا في خندق الإنقاذ (2). وليعلم هذا المجلس أن هؤلاء السودانيين الذين تعود أصولهم الإثنية إلى دولة جنوب السودان هم الجسر الشري الذي سنعبر من خلاله لاستعادة الوحدة ليصبح السودان مرةً أخرى أرض المليون ميل مربع.
عاشرا على المجلس العسكري أن يعلن عن ضرورة استعادة الوحدة مع دولة الجنوب الشقيقة، أكانت وحدةً اندماجية ام وحدة كونفيدرالية بين دولتين مستقلتين.
وبالطبع، هذا المجلس العسكري ليس مطالبا بتنفيذ جميع هذه البنود، كون فترته قد لا تسمح بذلك. لكن عليه أن يعلن إقراره وموافقته المبدئية عليها، ريثما تقوم الحكومة الثورية المدنية إلى سيشكلها المجلس التشريعي الثوري بعد تسلمه للسلطة من المجلس العسكري.
بعد هذا، على أقل تقدير، يمكن لتجمع المهنيين والقوى المتحالفة معه أن تجتمع بالمجلس العسكري، تمهيدا لإعلان أعضاء المجلس القيادي المدني كيما يقوم باستلام زمام السلطة من المجلس العسكري لتحقيق التحول الديموقراطي الذي يمرُّ عبر بوابة تخليص البلاد وتحريرها من آثار نظام الإنقاذ المباد.
هذه هي الشروط العشرة التي بدون مصادقة المجلس العسكري عليها من حيث المبدأ ثم من حيث البدء في إنفاذها لا ينبغي لأي قوي تنتمي للثورة أن تقبل بالجلوس مع معه لمناقشة اي قضية. وعليه، في نظرنا، أن قبول تجمع المهنيين، ومعه بعض القوى المتحالفة معه (قوي نداء السودان بصورة أساسية)، يعتبر اعترافا بالمجلس بما يعني استمراره في موقعه كأمر واقع. وهذا لعمري أول الوهن! وهو وهن سوف يدفع السودان ثمنا غاليا بسببه. فهم سوف يجلسون مع المجلس عبر التنسيق عبر الفريق عمر زين العابدين الذي تم تثبيته في المجلس كمنسق مع القوى السياسية. كما سيجلسون مع المجلس العسكري وهو بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه (خريج الخلوة وقائد مليشيا الجنجويد) محمد حمدان دوقلو (حميدتي) - فيا للعار! إذ ليس بعد هذا من خيانة للثورة أكثر من هذا!
ولمن لا يعلم، فإن الفريق عبد الفتاح البرهان لديه علاقة وثيقة مع مليشيات الجنجويد في دارفور عندما كان مشرفا على مجمل عملياتها الإجرامية هناك. وعندما قامت دولة الإنقاذ برئاسة المخلوع عمر البشير بالمتاجرة بالجندي السوداني في حرب اليمن التي تورطت فيها السعودية والإمارات، ذلك بإرسال بعض الجنود السودانيين، ثم لاحقا بالآلاف من مرتزقة مليشيات الجنجويد وبصورة أكثر مقاتلي مليشيا الدعم السريع، هناك مزاعم قوية بأن المشرف عليهآ هناك كان هو أيضا الفريق عبد الفتاح البرهان. وقد توطدت العلاقة بينه وبين فريق الخلوة حميدتي من جانب وبينهما الإثنين من جانب وبين دولتي السعودية والإمارات من الجانب الآخر حيث تقف الولايات المتحدة الأمريكية وراء هاتين الدولتين حسبما يعلمه الجميع. من جانب آخر يعمل الفريق عبد الفتاح البرهان على استغلال جنجويد الدعم السريع كفرقة ردع تعمل تحت إمرته ضد كل من تسوِّل له نفسُه بالتمرد عليه. وهذا بالضبط ما كان يفعله الرئيس المخلوع البشير. ليس هذا فحسب، بل جاءت هذه التحركات الأخيرة داخل الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ومعه باقي مجموعته من الضباط (وبعضهم في المعاش) ثم بتفاهم خاص بينه وين حميدتي، كلها بتنسيق أمريكي 100% وعبر أذرع سعودية - إماراتية. وهكذا ألقت السعودية بثقلها خلف الثورة عبر قناة "الحدث". ولم يفت ذوي الفطنة من مشاهديها محاولاتها المستمرة عبر كل تغطية لتوجيه أسئلة إيحائية leading questions تتعلق بموقف الدعم السريع، بحيث تكون الإجابات في صالح هذه المليشيا الجنجويدية. ليس هذا فحسب، بل قامت مذيعة الحدث باجتراح تسمية ما قام به المجلس العسكري على أنه "خارطة الطريق" (هكذا من رأسها تكريسا للخط الذي يسير فيه المجلس العسكري). وقد بلغت "الغباوة" والغفلة الثورية والفكرية درجة أن يسير معها في تكتيكها التضليلي الواهم جميع من أجرت معهم تلك المقابلات الهابطة مهنياً.
وقد يتساءل البعض لماذا تدعم السعودية والإمارات والولايات المتحدة نظاما يقف خلفه تنظيم من تنظيمات الإخوان المسلمين، وهي الدول التي أعلنت حربها على هذا التنظيم؟ نعم، أعلنت هذه الدول حربها على تنظيم الإخوان المسلمين ولكنها مقولة لا يجوز أخذها هكذا على علاتها. فهذه الدول أعلنت الحرب فعلا على تنظيمات الإخوان المسلمين غير المدجنة. بينما تحتضن وترعي تنظيمات الإخوان التي رضيت بأن تكون مطية للإمبريالية العالمية، وما دول المنطقة إلا مخالب قط. ويعني هذا أن الإنقاذ (2) ليس فقط قد ألقت بكل ثقلها خلف الأجندة الإمبريالية العالمية، بل رضيت أن تجعل السودان تابعا ذليلا للسعودية والإمارات التي لعب شعب السودان دورا كبيرا في ترفيعها حضاريا وثقافيا. ولا عجب! فهم في هذا يسيرون في خطي الإنقاذ (1). وبالفعل، قبل أن يمضي على مجلسهم يومان، شرعوا عبر المتحدث باسمهم في استجداء العون، ألا بئس الشحَّاذ وبئس المشحوذ منه!
وقد اقترف تجمع المهنيين خطيئته غير المغفورة عندما أشاد بموقف الدعم السريع الزائف بدعم الثورة وهو الذي كان قد نادى في بياناته ومواثيقه بتفكيك المليشيات. وأوغل تجمع المهنيين في الضلالة إلى ما وراء خط إبليس عندما وافق بأن تلتقي قوى نداء السودان، مصحوبةً ببعض ممثلي منظمات مجتمع مدني، ليس فقط بأن تلتقي بالمجلس العسكري للإنقاذ (2)، بل أضفوا الشرعية عليه عندما هانوا واستهانوا لدرجة أن يقدموا مطالبهم للمجلس العسكري الذي وعد بتنفيذها، ذلك لو كان للعسكر المودلجين كلمة وعهد. وقد تداني سقف مطالبهم إلى ما دون الركبتين عندما قصروها على حكومة مدنية (كاملة الصلاحيات التنفيذية)، وهو عين ما وعد به المجلس العسكري تحت رئاسة المخلوع عوض بن عوف. ويعني قصرهم لمطالبهم على هذا اعترافا رسميا ليس فقط بشرعية المجلس العسكري، بل بأن تكون السيادة من اختصاصه، وهي السيادة التي يمكنه بموجبها أن يقوم بحل الحكومة إذا أخفقت. وإنها لمخفقة لا محالة! كيف ولماذا؟ لأن بنية الإنقاذ (1) التي لا تزال متماسكة لكنها متناومة سوف تعمل ما بوسعها لإفشال أي حكومة في فترة الإنقاذ (2). وهذه لعبة يا طالما لعبوها من قبل حتى تمكنوا من تسميم الديموقراطية الثالثة (1986م - 1989م)، تنفيرا للناس منها وتمهيدا لانقلابهم القادم. وإنهم أيضا لمخفقون بسبب أن تركة المشاكل التي صنعتها الإنقاذ (1) لم تكن فقط كفيلة بإسقاطها، بل حتى بإسقاط من يجيئ بعدها إن لم يكن يتمتع بسلطة الشرعية الثورية بحيث يتخذ من الإجراءات ما تستلزمه الحالة المتعينة. وفي الحقِّ فإن قوي نداء السودان كان قد انعقد لواؤها قبل عامين على خوض انتخابات 2020م والبلاد لا تزال تحت سيطرة الإنقاذ (1); واليوم هم أكثر إقبالا عليها والبلاد تحت حكم الإنقاذ (2)، باعتبار أن الأخيرة ارحم من الأولى فتصوروا! فيا لخفة العقل ويا للأحلام العصافيرية التي لا ترتفع فروعُها إلى ما هو أعلى من حلم الاستوزار ولو لعام واحد. فيا لبؤس هؤلاء الأفندية! وقد خرجوا من اجتماعهم مع المجلس العسكري ليخاطبوا جماهير الشعب فإذا بهم يكشفون عن قلة حيلتهم. فقد طالبوا المجلس العسكري باسترداد دور حزب المؤتمر الوطني، دون أن يملكوا الجرأة للمطالبة بحظر نشاطه. كما بشَّروا الجماهير بأن المجلس العسكري قد وافق على مطلبهم بإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، فهللت لذلك الجماهير! وما كان ذلك سوى خطاب تضليلي للجماهير. فلماذا في الأصل نقوم بمطالبة المجلس العسكري بإلغاء القوانين المقيدة للحريات؟ هل لجهله بها؟ فلماذا، مثلا، لم يقم المجلس العسكري بإلغاء قانون النظام العام سيئ السمعة الذي أذل الشباب، خاصةً الفتيات والنساء لدرجة أن يدفعهم كل هذا ليكونوا رأس الرمح لهذه الثورة الشعبية المجيدة وهم يهتفون (آ أَءَ أَءَ أَءَ .. حرية)! ثم ما هو رأي قوي نداء السودان ومشايعيهم من بعض تنظيمات المجتمع المدني حول قوانين الشريعة من جلد وقطع وصلب؛ هل هي ضمن القوانين المقيدة للحريات أم أنها ليست كذلك؟ خلاصة القول، لقد خانت قوي نداء السودان هذه الثورة الشعبية المجيدة وهي لمَّا تبلغ الميس بعد. ولقد بلغت الخيانة مداها الأقصى عندما صرَّح المتحدث باسم تنظيم لا يتجاوز عدد أعضائه أصابع اليد الواحدة ضمن المشاركين في الاجتماع بالمجلس العسكري، ومع كل هذا تجرأ على أن يتحدث باسم قوي نداء السودان، أنهم على استعداد لفض الاعتصام إذا ما قام المجلس العسكري بتنفيذ وعوده - كذا! أي الاعتراف بسيادية المجلس العسكري! وما هذا إلا لانتماء هؤلاء وهؤلاء الكامل والمتناهي للايديولوجيا الإسلاموعروبية. وهذا ما يلغي المسافة بينهم وبين دولة الإنقاذ بشقيها (1) و (2).
إن مجرد الإعلان عن أن حميدتي هو عضو في المجلس العسكري هو بمثابة صفعة في وجه دارفور الصامدة بمثلها ما هو صفعة في وجه الثوار الذين هتفوا (يا عنصري ومغرور ..كل البلد دارفور)، ذلك عشية تلفيق الأجهزة الأمنية في عهد الرئيس المخلوع البشير التهم الجزافية لبعض ابناء دارفور بأنهم وراء الثورة، واصفين لها بالشغل. وأخطر من كل هذا أن عضوية حميدتي في أي أجهزة انتقالية سيعني مكافأته على جرائم مليشيا الدعم السريع الجنجويدية في دارفور وجبال النوبة، وهل هناك من مكافأة أكبر من ترقيته إلى رتبة الفريق أول وهو الذي لم يتلقَّ أي تعلي فوق مستوى الخلوة، دع عنك ان يكون قد تلقى أي تعليم عسكري. كما يعني تكريمه وترقيته بمثابة عدم وضع المنطقتين (دارفور وجبال النوبة) في الاعتبار بما فيهما من شعب وموارد ومساحة (دارفور تساوي مساحة فرنسا، والمناطق الخاضعة للحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال في جبال النوبة والنيل الأزرق تساوي مساحة دولتي رواندا وبورندي مجتمعتين). وهذا يعني أن دولة الإنقاذ (2) هي أيضا دولة حرب بمثلما كانت دولة الإنقاذ (1). وهكذا يصنع المركز شروط الانفصال في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق بمثلما صنعها من قبل في جنوب السودان حتى انفصل. وهنا يجب أن ننبِّه إلى أن المجلس العسكري الحالي الذي يمثل دولة الإنقاذ (2) لم يقم بحل مليشيا الدفاع الشعبي التي ليست سوى مليشيا مذهبية تدين بالولاء للحركة الإسلامية بصورة عامة وللموتمر الوطني المباد بصورة خاصة.؛ ليس هذا فحسب، بل أعلن المجلس انه لن يقوم بحل هذه المليشيا، فتصوروا! وكيف لنا أن نتوقع منه هذا وهو الذي لم يصرِّح ولو بكلمة، من باب الخدمة الشفاهية، عن مليشيات المؤتمر الوطني التي أعلن عنها على عثمان محمد طه، متحدثاً الجماهير أن تسقط نظام الإنقاذ ولو اعتصمت داخل مباني القيادة العامة للجيش لمائة عام. وهو ما دعا جماهير الثورة إلى أن تبتدع هتافا خاصا بهذا (سقطت .. سقطت .. يا كيزان! سقطت .. سقطت .. علي عثمان)! وهو هتاف سبق سقوط الإنقاذ (1) ومجيئ الإنقاذ (2) بأكثر من شهر. وأسوأ من كل هذا تعيين المدعو دمبلاب مديرا لجهاز الأمن. فهذا الشخص ليس فقط منتمياً لتنظيم الميزان، بل والده أيضا كوز كبيييير، أي أنه كوز كابرا عن كابر. ولكن كيف لا يختاره البرهان لهذا المنصب! فهم أيضا دفعة!
وبعد، ها هي دولة الإنقاذ (2) قد كشفت عن وجهها القميئ وهو أمر كانت هناك مجموعات بعيدة النظر قد تنبأت بها فيما يعرف ببيان (حتى لا تُسرق الثورة الشعبية - 22 ديسمبر 2018م). إلا أن الوعي الثوري الشعبي العام لم يكن قد ارتفع لدرجة التعامل مع ذلك البيان بالوعي المطلوب. إن أخطر ما يمكن أن يتمخض عن هذه السرقة النهاردة للثورة الشعبية هو تحول الغضب الثوري المدني الذي ميَّز هذه الثورة الشعبية لأربعة أشهر، ولا يزال، إلى غضب ثوري مسلح، وما ديارُ الحرب ببعيدة عنهم. عندها سيثبت ما ظل يردده الري؛يس المخلوع البشير بأنهم استلموا السلطة بالقوة، وعلى من يريد أن ينازعهم فيها، أن يأتي عبر القوة والسلاح. وهذا يؤكد شيئا واحدا، ألا وهو أنه لا فرق جوهري بين الإنقاذ (1) وبين الإنقاذ (2). وليس أدل على أنها لا تزال دولة حرب من إشراكهم في مجلسهم العسكري للمليشيات الإثنية التي استخدمتها في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية والإبادة في دارفور ممثلةً في جنجويد الدعم السريع وغيرها.
كما رسمنا هذا المقال بعنوانه الوارد أعلاه (الثورةُ لا تساوم! وإذا ساومت فذلك يفتح الباب أمام الثورة المضادة)، فها هي الأنباء تترى وهي تكشف كيف يقوم تنظيم المؤتمر الوطني (الذي كان ينبغي صدور قرار من المجلس العسكري بحظره واعتقال قادته) يدعو لإطلاق سراح أعضائه المعتقلين. وهذه نكتة إنقاذية (الإنقاذ 2) لا يمكن المرور فوقها دون تعليق. فالمجلس العسكري الكيزاني بوصفه يمثل الإنقاذ (2) حتى الآن لم يكشف لنا أسماء من قام باعتقالهم من قيادات نظام الإنقاذ (1) إما لأنهم لم يعتقلوا غير عدد محدود، أو أنهم لم يعتقلوا اي اشخاص بخلاف الرئيس المخلوع البشير وبضعة أشخاص لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. وحتى هؤلاء لم يتم اعتقاله، بل هم لا يزالون يقيمون داخل منازلهم. ومع هذا انظر كيف يستأسد هؤلاء الكيزان في مواجهة هؤلاء الجبناء الرعاديد ممن يدعون انهم يمثلون تجمع المهنيين - هذا الطفل اليتيم!
فما هو العمل؟ الواجب الآن هو دعم الاعتصام القائم وتوطيده وتكريسه في مواجهة دولة الإنقاذ (2) وذلك حتى نتمكن من تحقيق أمرين أساسيين، أولهما عدم انتكاسة هذه الثورة المجيدة، ذلك حتى تتواصل الثورة إلى أن يتم الإسقاط التام والكامل لدولة الإنقاذ (2) بما يشمل تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية والتنظيمية للكيزان، ومن ثم تفكيك دولة الإنقاذ بشقيها (1 و 2) من مؤسسات فساد وقوانين وأشخاص. أما الأمر الثاني الذي نستهدفه ونأمل أن نجني ثماره، فهو الحيلولة دون أن يعرض شباب هذه الثورة المجيدة عن تكتيك ثورة شوارع المدن السلمية إلى ثورة الغابات والجبال والصحاري المسلحة. فهذه لو حدثت، فهي الحرب الأهلية الشاملة بما يمكن أن يذهب بريح الدولة السودانية، اقدم مؤسسة دولة في تاريخ البشرية.

محمد جلال أحمد هاشم
الخرطوم - 13 أبريل 2019م